تحت سماءٍ ملبّدة بالدخان ورائحة الكيميائيات الخانقة، تعيش قابس هذه الأيام واحدة من أسوأ أزماتها البيئية منذ سنوات. المدينة الجميلة التي كانت تُعرف ببحرها وسحرها الطبيعي، أصبحت اليوم ترمز إلى الغضب والاحتجاجات والتلوّث، بعد أن تحوّلت الانبعاثات الكيميائية من المجمع الكيميائي إلى كابوس يومي لأهل الجهة.
الوضع لم يعد يُحتمل. سكان قابس خرجوا في احتجاجات متكرّرة للمطالبة بإغلاق المجمع نهائيًا، متّهمين السلطات بالتقصير وبالاكتفاء بوعودٍ “ترقيعية” لم تغيّر شيئًا على أرض الواقع. ومع تراكم الغضب والاحتقان، جاء قرارٌ من الرئيس قيس سعيّد بتحريك الملف بشكل عاجل، لكن هذه المرة بخطة مختلفة تمامًا: الاستعانة بالصين.
🔹 تحرّك رسمي وتنسيق مع بكين
الرئيس سعيّد أصدر تعليماته لعدد من الوزراء للاجتماع بالسفير الصيني في تونس، والهدف كان واضحًا: إيجاد حلٍّ فعلي وسريع لأزمة الانبعاثات الملوّثة في قابس.
اللقاء هذا مثّل بداية لتنسيق تونسي صيني رسمي من أجل وضع خطة إنقاذ بيئية متكاملة تشمل معالجة الانبعاثات الكيميائية، وتحديث التجهيزات داخل المجمع الصناعي حتى تتماشى مع المعايير البيئية الحديثة.
من الجانب الصيني، جاءت التوصيات مركّزة على حلول تقنية متقدّمة، أبرزها إدخال شركات مختصة في معالجة الغازات السامة وترشيح الانبعاثات، إلى جانب تطوير منظومة إدارة النفايات الصناعية والحد من تسرّبها نحو البحر والمناطق السكنية.
الصين أكدت كذلك استعدادها لتوفير تجهيزات حديثة وخبرة هندسية عالية، باعتبارها من أكثر الدول التي نجحت في السنوات الأخيرة في تحويل مناطق صناعية ملوّثة إلى مناطق نظيفة وخضراء، عبر ما يسمّى بـ"مشاريع التنمية الصديقة للبيئة".
🔹 من التعاون البيئي إلى الشراكة الاستراتيجية
الخطوة هذه ما جاتش من فراغ. فالعلاقات بين تونس والصين عرفت تطورًا كبيرًا في السنوات الأخيرة، خصوصًا بعد زيارة الرئيس قيس سعيّد إلى بكين العام الماضي، والتي تُوّجت بتوقيع اتفاق شراكة استراتيجية غير مسبوق بين البلدين.
الاتفاق هذا شمل مجالات الاقتصاد والطاقة والبنية التحتية، واليوم يضاف إليه الجانب البيئي كواجهة جديدة للتعاون بين البلدين.
المحلّلون يشوفوا أن تونس تراهن على الصين مش فقط كحليف اقتصادي، بل كقوّة قادرة على توفير حلول عملية وسريعة لأزمة قابس، خاصة في ظلّ توتّر العلاقات مع بعض الشركاء الأوروبيين اللي كانوا في الماضي يقدّموا الدعم المالي والفني في ملفات البيئة والطاقة.
🔹 الصين تردّ: "قادرون على حلّ الأزمة"
وفي مقابلة على قناة “المشهد الليلة”، قال نادر رونغ، عضو مجلس إدارة الجمعية الصينية لدراسات الشرق الأوسط، إن الصين تملك خبرة ضخمة وتجارب ناجحة في معالجة التلوث الصناعي، مؤكدًا أن ما تواجهه تونس اليوم “ليس مستحيلًا” بالنسبة للقدرات الصينية.
وأضاف أن بكين تنظر إلى هذا التعاون كفرصة لتحقيق “كسب مشترك”، أي أن تستفيد تونس من التكنولوجيا والخبرة الصينية، بينما تستفيد الشركات الصينية من فرص الاستثمار والتعاون داخل السوق التونسية.
وأكد أيضًا أن الصين لا تسعى إلى إبعاد تونس عن شركائها الأوروبيين، بل إلى تقديم خيار إضافي يقوم على الفعالية والنتائج الملموسة، مشيرًا إلى أن المشاريع الصينية في تونس، مثل بناء السدود ومحطات الطاقة الشمسية، كانت دائمًا تراعي تشغيل اليد العاملة التونسية وتكوينها.
🔹 أمل جديد لقابس
في خضمّ هذا الحراك، يعيش أهالي قابس بين الخوف من استمرار الوضع البيئي الخطير، والأمل في أن تكون هذه الخطوة بدايةً فعلية لإنهاء معاناتهم الطويلة. فالمجمع الكيميائي، رغم أهميته الاقتصادية، أصبح مصدر قلق وتهديد مباشر لصحة السكان والبيئة البحرية.
واليوم، يبدو أن تونس اختارت أن تضع ثقتها في الشريك الصيني، على أمل أن تكون التجربة الصينية في التنمية الخضراء مفتاحًا لحلّ أزمة قابس.
لكن يبقى السؤال مطروحًا: هل ستنجح بكين فعلًا في إنقاذ الجنوب التونسي؟ وهل ستكون هذه بداية مرحلة جديدة من التعاون المثمر بين البلدين؟
الجواب مازال في علم الغيب، لكن الأكيد أن الجميع في قابس ينتظر بلهفة أن يرى السماء صافية من جديد، وأن يتنفس هواءً نقيًا دون خوف من الغازات والدخان.
الفيديو;
