في سماء الفن العربي، تلمع أسماء عديدة استطاعت أن تترك بصمة خالدة، ولكن قليلون هم من جمعوا بين الموهبة الاستثنائية، والحضور الطاغي، والثقافة العالية، والالتزام الإنساني.
من بين هؤلاء تتصدر هند صبري، الممثلة التونسية التي استطاعت بفضل قدراتها التمثيلية وذكائها الثقافي ووعيها الاجتماعي أن تفرض مكانتها كواحدة من أبرز نجمات الفن العربي المعاصر.
وُلدت في تونس، وبدأت مسيرتها من هناك، ولكنها سرعان ما تجاوزت حدود الوطن لتصبح نجمة عربية من الطراز الرفيع، تُحاكى أدوارها في السينما المصرية، وتُدرّس تجاربها في المهرجانات، وتُستشهد بمواقفها الإنسانية في المؤتمرات الدولية.
هند صبري ليست فقط ممثلة موهوبة، بل هي صوت نسائي مثقف ومؤثر، ارتبط اسمه بقضايا المرأة، وحرية التعبير، والعدالة الاجتماعية، إلى جانب حضورها الفني اللافت.
لم تكن مسيرتها سهلة أو عابرة، بل خاضت الكثير من التحديات، وانتقلت من دور إلى آخر باحترافية عالية، رافضة أن تُحبس في قالب واحد، أو أن تصبح مجرّد وجه جميل في عالم لا يرحم.
كانت دومًا تبحث عن المعنى، عن العمق، عن القضايا التي تستحق أن تُروى، وعن الشخصيات التي تعكس الواقع والناس.
إن قصة هند صبري هي أيضًا قصة نجاح المرأة العربية في وجه التحديات، وقصة الفن الذي يحمل رسالة، والموهبة التي تقاوم النمطية، والإرادة التي تصنع الفارق.
النشأة والدراسة
وُلدت هند حمدي صبري في مدينة قبلي جنوب تونس يوم 20 نوفمبر 1979.
نشأت في عائلة متوسطة تؤمن بأهمية التعليم والثقافة، وهو ما انعكس في مسارها الدراسي حيث درست الحقوق في تونس قبل أن تنتقل إلى فرنسا لتحصل على ماجستير في حقوق الملكية الفكرية من جامعة السوربون.
تميزت منذ صغرها بشغفها بالقراءة والفن، وكانت تحب المسرح والأدب، إلى جانب اهتمامها بالقانون.
هذه الخلفية المزدوجة بين الثقافة القانونية والميول الفنية صنعت منها شخصية متوازنة تجمع بين العمق الفكري والموهبة التمثيلية.
الانطلاقة الفنية في تونس
بدأت هند صبري مشوارها الفني في سن مبكرة جدًا، عندما شاركت في فيلم "صمت القصور" (1994) للمخرجة مفيدة التلاتلي، وهي لا تزال مراهقة في الرابعة عشرة من عمرها.
وقد حاز الفيلم على عدة جوائز دولية، ولفتت هند الأنظار بقدرتها العالية على التعبير، رغم صغر سنها.
ثم شاركت بعد ذلك في فيلم "موسم الرجال" (2000) لنفس المخرجة، لتؤكد موهبتها وقدرتها على تقديم أدوار معقدة وتحمل أبعادًا اجتماعية ونفسية.
الانتقال إلى مصر وبداية النجومية
عام 2001، شكّلت مشاركتها في فيلم "مذكرات مراهقة" للمخرجة إيناس الدغيدي بوابة عبورها إلى السينما المصرية.
أدّت فيه دور فتاة مراهقة تكتشف جسدها وهويتها، وكان الدور جريئًا ومختلفًا، لكنه أثار الكثير من الجدل.
إلا أن أداءها المقنع وقوة حضورها جعلا منها اسمًا لامعًا في الوسط الفني المصري.
منذ ذلك الوقت، بدأت هند صبري تشق طريقها بثقة في مصر، البلد الذي أصبح لاحقًا وطنها الثاني.
وقد استطاعت أن تدمج بين هويتها التونسية وانخراطها في المشهد المصري، فجمعت بين الأصالة والانفتاح، وبين العمق والجرأة.
أبرز أعمالها السينمائية
قدّمت هند صبري مجموعة من الأفلام المهمة التي شكّلت علامات فارقة في تاريخ السينما العربية، من بينها:
"عمارة يعقوبيان" (2006) للمخرج مروان حامد، إلى جانب عادل إمام، حيث لعبت دور فتاة فقيرة تبحث عن الخلاص، وهو أحد أدوارها المميزة.
"جنينة الأسماك" (2008) مع عمرو واكد، وقدّمت فيه دورًا مركبًا يعكس صراعات داخلية عميقة.
"أسماء" (2011): وهو من أكثر أفلامها تأثيرًا، حيث جسدت فيه دور امرأة مصابة بالإيدز تواجه وصمة المجتمع، وقد نالت عنه عدة جوائز.
"الكنز" (2017 و2019): فيلم ملحمي متعدد الفترات الزمنية.
"الفيل الأزرق 2" (2019): شاركت فيه بدور جديد أثار إعجاب الجمهور.
"كيرة والجن" (2022): إلى جانب كريم عبد العزيز وأحمد عز، حيث دخل الفيلم قائمة الأعلى إيرادًا في تاريخ السينما المصرية.
المسلسلات التلفزيونية
إلى جانب السينما، كان لهند صبري حضور قوي على الشاشة الصغيرة، من خلال عدة أعمال ناجحة منها :
"عايزة أتجوز" (2010): مسلسل كوميدي اجتماعي من بطولتها وكتابتها، يُعد من أنجح المسلسلات التي تناولت ضغوط الزواج في المجتمعات العربية.
"إمبراطورية مين؟" (2014): عالج المسلسل ظواهر ما بعد الثورة المصرية بطريقة ساخرة.
"حلاوة الدنيا" (2017): مسلسل درامي عميق حول مرض السرطان، وقد حاز على إشادات واسعة.
"البحث عن علا" (2022): إنتاج Netflix، أعادت فيه شخصية "علا عبد الصبور" بطريقة عصرية تتماشى مع تغيرات المجتمع.
الجوائز والتكريمات
حصلت هند صبري على العديد من الجوائز والتكريمات على مستوى العالم العربي والدولي، من أبرزها:
- جائزة أفضل ممثلة من مهرجان قرطاج السينمائي.
- جائزة فاتن حمامة للتميز من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي.
- أفضل ممثلة عن فيلم "أسماء" من عدة مهرجانات.
- تم اختيارها ضمن قائمة أكثر النساء تأثيرًا في العالم العربي من قبل مجلة "فوربس".
النشاط الإنساني والاجتماعي
بعيدًا عن الفن، برزت هند صبري كصوت نسائي مدافع عن حقوق المرأة، واللاجئين، والمرضى.
وهي سفيرة النوايا الحسنة لبرنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة منذ عام 2010، وقد قامت بعدة زيارات ميدانية في اليمن وسوريا ولبنان لتسليط الضوء على معاناة المتضررين من النزاعات والفقر.
كما شاركت في حملات توعوية ضد السرطان، والفقر الغذائي، والعنف ضد النساء، مما جعلها تحظى باحترام واسع داخل وخارج الوسط الفني.
حياتها الشخصية
تزوجت هند صبري من رجل الأعمال المصري أحمد الشريف، وهي أم لطفلتين.
وقد عُرفت بحرصها على الفصل بين حياتها الفنية والخاصة، متمسكة بأن تبقى العائلة هي الأولوية رغم زخم العمل.
الحضور الدولي
تم اختيار هند صبري عضوًا في لجان تحكيم مهرجانات دولية مثل مهرجان البندقية ومهرجان كان، كما شاركت في حملات عالمية حول تمكين المرأة ودعم الفن العربي، ما جعلها من أكثر الفنانات العربيات تمثيلاً للعالم العربي على الساحة الدولية.
تشكل مسيرة هند صبري مثالاً ملهمًا على النجاح المستدام المبني على الموهبة والوعي والمسؤولية.
ليست فقط فنانة ناجحة، بل نموذجًا للمرأة العربية المثقفة والمجتهدة والملتزمة بقضايا مجتمعها.
من تونس إلى القاهرة، ومن شاشات السينما إلى المنصات الدولية، أثبتت أن الفن الحقيقي قادر على كسر الحواجز وبناء الجسور.
إنها باختصار، امرأة بثلاث وجوه: الفنانة، والمثقفة، والإنسانية. ولا تزال قصتها مفتوحة على المزيد من الإبداع والعطاء.
هند صبري والتمكين الثقافي للمرأة
لم تكن هند صبري مجرد ممثلة تؤدي أدوارًا مكتوبة، بل كانت دائمًا حريصة على اختيار أدوار تعكس واقع المرأة العربية، بمختلف طبقاتها ومعاناتها وتحدياتها.
في العديد من أفلامها، مثل "أسماء" و"حلاوة الدنيا"، ظهرت كامرأة قوية تواجه الخوف والمرض والوصمة المجتمعية.
وفي "عايزة أتجوز"، عالجت ظاهرة الضغط الاجتماعي والزواج القسري بطريقة كوميدية ذكية.
من خلال هذه الأدوار، ساهمت في رفع الوعي المجتمعي بقضايا المرأة، وكانت من أوائل الفنانات العربيات اللواتي استخدمن الشهرة كمنصة للدفاع عن حقوق النساء وتمكينهن ثقافيًا واجتماعيًا.
شخصية مثقفة وصاحبة رأي
ما يميز هند صبري عن الكثير من نجمات جيلها هو أنها مثقفة وواعية بقضايا عصرها.
فهي لا تكتفي بالمشاركة في الأعمال الفنية، بل تشارك في النقاشات الفكرية والسياسية والاجتماعية في العالم العربي.
كما تكتب أحيانًا مقالات رأي، وتُجري مقابلات إعلامية تعكس وعيها ورأيها الواضح في القضايا الساخنة، سواء تعلق الأمر بالمرأة، أو الفن، أو حرية التعبير.
وقد ظهرت في العديد من المؤتمرات الثقافية، سواء كمشاركة أو متحدثة، ما عزز صورتها كنموذج للفنانة المفكرة والملتزمة.
علاقتها بتونس وجمهورها التونسي
رغم استقرارها في مصر، إلا أن هند صبري لم تنقطع يومًا عن بلدها تونس.
تشارك بانتظام في مهرجان قرطاج، وتعبّر في كل مناسبة عن فخرها بأصولها التونسية.
وقد عبّرت مرارًا عن حبها للجمهور التونسي وارتباطها الكبير بوطنها الأم، وغالبًا ما تقول في لقاءاتها: "أنا تونسية أولاً، وعربية دومًا".
كما دعمت مشاريع ثقافية ومبادرات مجتمعية داخل تونس، وأظهرت حرصها على دعم المواهب الصاعدة، والمشاركة في فعاليات محلية عندما يسمح جدولها.
هند صبري والإنتاج الفني
في السنوات الأخيرة، لم تكتف هند صبري بالتمثيل، بل دخلت عالم الإنتاج الفني من خلال شركتها الخاصة. وكانت من أوائل النجمات العربيات اللواتي شاركن في إنتاج عمل درامي على منصة عالمية، مثل "البحث عن علا" الذي أنتجته بالتعاون مع Netflix، حيث حرصت على أن يكون العمل موجّهًا لجمهور عربي وعالمي في آنٍ واحد.
هذا التوجه يُظهر نضجها المهني، وسعيها للتحكم في نوعية المحتوى الذي تُقدمه، ومساهمتها في تقديم صورة معاصرة وحديثة عن المرأة العربية في الدراما.
حضورها على وسائل التواصل الاجتماعي
تتمتع هند صبري بحضور قوي ومؤثر على منصات التواصل الاجتماعي مثل إنستغرام وفايسبوك وتويتر، حيث يتابعها ملايين المعجبين.
وتحرص على أن يكون محتواها مزيجًا بين الفن، والإنسانية، والحياة اليومية، ما يجعلها قريبة من جمهورها.
كما أنها تستخدم هذه المنصات للتفاعل مع متابعيها، وللتوعية بقضايا مجتمعية وإنسانية، منها قضايا اللاجئين، والجوع، والمرأة، والتعليم.
دورها في دعم السينما المستقلة
تدعم هند صبري بقوة السينما المستقلة والمواهب الجديدة في العالم العربي، وشاركت في لجان تحكيم مهرجانات تهتم بهذا النوع من السينما، مثل مهرجان الجونة، ومهرجان أيام قرطاج السينمائية.
ترى هند أن السينما المستقلة هي صوت الشعوب الحقيقي، وهي منابر تعكس الواقع بعيدًا عن حسابات السوق والربح، وتؤمن بأهمية تشجيع الشباب لصناعة محتوى إبداعي هادف.
مشاريع مستقبلية
رغم كل ما حققته من نجاح، لا تزال هند صبري طموحة وتسعى لتجارب جديدة.
وقد أعلنت في أكثر من مناسبة أنها تحضّر لمشاريع سينمائية تتناول قضايا عربية معاصرة، إلى جانب تفكيرها في إخراج أعمال فنية، وتقديم محتوى وثائقي يعكس نبض المجتمعات العربية من وجهة نظر نسائية.
وهي حاليًا منخرطة في تحضيرات لأعمال درامية وسينمائية ستُعرض قريبًا، وبعضها يتناول قصصًا حقيقية وسيرًا ذاتية مؤثرة.
Tags:
منوعات