في كل بيت تونسي، وفي ذاكرة كل من عاش فترات الازدهار الفني للتلفزة التونسية، يبقى اسم سفيان الشعري محفورًا كرمز للبسمة الصادقة، والضحك النابع من القلب، والبساطة التي أسرت الجمهور.
هو واحد من أولئك الفنانين الذين لا يمكن أن تنساهم الذاكرة، لأن حضورهم تجاوز الشاشة ووصل إلى أعماق القلوب.
النشأة والبدايات :
وُلد سفيان الشعري يوم 31 يوليو 1962 في تونس العاصمة. نشأ في بيئة عادية، وبرز منذ صغره بحسه الفكاهي العفوي وقدرته على إضحاك من حوله.
دخل عالم التمثيل في سن مبكرة، وبدأ يخطو خطواته الأولى في المسرح، حيث صقل موهبته وتعلم أساسيات التمثيل، ثم شق طريقه بثبات نحو التلفزيون.
سفيان الشعري و"شوفلي حل" :
كانت النقلة النوعية في مسيرته الفنية عندما شارك في السلسلة الكوميدية الرمضانية الشهيرة "شوفلي حل"، التي أُنتجت بين 2005 و2009.
لعب فيها دورًا لا يُنسى، هو دور "السبوعي"، موظف الاستقبال البسيط في عيادة الدكتور سليمان الأبيض.
شخصية "السبوعي" جسّدها سفيان الشعري بعبقرية جعلت منها أحد أهم رموز الكوميديا التونسية.
اتسمت الشخصية بالسذاجة، والعفوية، وحب الأكل، والنوايا الطيبة، ما جعل الجمهور يتعلق بها بشكل استثنائي.
وبفضل خفة دمه وتلقائيته، أصبح "السبوعي" جزءًا من الحياة اليومية للتونسيين، ومصدر إلهام لكثير من الكوميديين والمواقف الطريفة.
مسيرة فنية غنية :
لم تقتصر مسيرة سفيان الشعري على "شوفلي حل"، فقد شارك في عدة أعمال أخرى، سواء في التلفزيون أو المسرح.
من بين أعماله الأخرى نذكر :
"نسيبتي العزيزة"
"نسيبتي العزيزة 2"
"مسرحيات متعددة" بالتعاون مع كبار الممثلين التونسيين مثل كمال التواتي ولمين النهدي.
كما كانت له تجارب في تقديم البرامج، حيث قدّم برنامجًا تلفزيونيًا ترفيهيًا لاقى استحسانًا من الجمهور، وعُرف فيه بأسلوبه المرِح وقربه من الناس.
إنسان قبل أن يكون فنانًا :
لم يكن سفيان الشعري فنانًا فقط، بل كان إنسانًا خلوقًا، متواضعًا، محبوبًا من الجميع.
زملاؤه في الوسط الفني يشهدون له بأخلاقه العالية وحبه لمساعدة الآخرين.
لم تغيّره الشهرة، بل ظل قريبًا من جمهوره، يلتقط الصور معهم ويمازحهم أينما التقاهم.
الرحيل المفاجئ :
في يوم 22 أوت 2011، صُدم التونسيون بخبر وفاة سفيان الشعري إثر نوبة قلبية مفاجئة.
كان عمره آنذاك 49 سنة فقط، وقد وافته المنية وهو في أوج عطائه الفني.
عمّ الحزن كل أنحاء البلاد، وأُقيم له موكب جنازة مهيب شارك فيه عدد كبير من الفنانين والمواطنين الذين جاؤوا ليودعوا نجمهم المحبوب.
إرث خالد :
رغم رحيله، لا تزال أعمال سفيان الشعري تُعرض وتُتابع بشغف من مختلف الأجيال، وتبقى شخصية "السبوعي" حاضرة بقوة في الذاكرة الجماعية. يعاد بثّ "شوفلي حل"، وكأن الجمهور لا يملّ من الضحك على مواقفه، بل يجد فيها نوعًا من الحنين والدفء العائلي.
لقد ترك سفيان الشعري وراءه إرثًا فنيًا وإنسانيًا كبيرًا، وعلّمنا أن الضحك ليس مجرد تمثيل، بل رسالة سامية قادرة على مداواة القلوب.
لقد رحل سفيان الشعري عنّا جسدًا، لكن حضوره ظل خالدًا في الذاكرة التونسية، تمامًا كما تبقى النجوم تضيء السماء حتى بعد غيابها.
لم يكن سفيان مجرد فنان عادي يمر مرور الكرام، بل كان صوتًا صادقًا للفرح، ورمزا للبسمة، وفنانًا نابعًا من عمق المجتمع التونسي، يحمل همومه ويترجمها بأسلوب ساخر وبسيط في آنٍ واحد.
كانت شخصيته في "شوفلي حل" أكثر من مجرد دور في مسلسل، بل أصبحت رمزًا ثقافيًا يتداول الناس عباراته وحركاته حتى اليوم.
استطاع سفيان أن يخلق لغة خاصة به، يفهمها الكبير قبل الصغير، ويتفاعل معها الجميع دون استثناء، لأن صدقه كان مرآة لواقع عايشوه، وأمله كان متنفسًا في أيام الضيق.
لقد برع في تقديم الكوميديا النظيفة التي لا تعتمد على الابتذال أو السخرية المجانية، بل تبني الضحكة على الموقف الذكي والبساطة الطريفة.
وهذا ما جعل منه مدرسة في حد ذاته، فحتى بعد وفاته لا يزال يُضرب به المثل في الأداء العفوي، ويُستشهد باسمه كلما تحدّثنا عن فنّان نجح في كسب حب الجمهور دون ضجيج إعلامي أو اصطناع.
وإن كان القدر قد اختطفه في عزّ عطائه، فإنّ ذكراه ستظل حيّة، تشعّ بالأمل والفرح، وتُعلّم الأجيال القادمة أنّ الفن الحقيقي لا يُقاس بطول العمر، بل بصدق الإحساس وعمق الأثر.
رحم الله سفيان الشعري، وأسكنه فسيح جناته، فقد ترك لنا إرثًا من المحبة، وذكرى من نور، وفنًا لا يغيب.
Tags:
منوعات